مُلاحظات العيد


 


 ليس العيدُ إلا إشعارَ هذه الأُمَّةَ بأنَّ فيها قوةَ تغييرِ الأيام، لا إشعارَها بأنَّ الأيامَ تتغيَّر؛ وليس العيدُ للأُمَّةِ إلا يومًا تَعرِضُ فيه جمالَ نظامِها الاجتماعيّ، فيكونُ يومَ الشعورِ الواحدِ في نفوسِ الجميع، والكلمةِ الواحدةِ في ألسنةِ الجميع؛ يومَ الشعورِ بالقُدرةِ على تغييرِ الأيام، لا القُدرةِ على تغييرِ الثِّياب … كأنَّما العيدُ هو استراحةُ الأسلحةِ يومًا في شعبِها الحربيّ.

[المعنى السياسي في العيد || وحي القلم]

 

أحب جداً أن أعاود قراءة ما خطّه الرافعي عن العيد وفي يوم العيد لأنه وبطريقة جميلة للغاية يصوغ ما بداخل كل منا عن ما يتركه فينا العيد من أثر، ولطالما أعجبتني الفكرة الكامنة والبارزة جداً في كثير من نصوص الرافعي والمفضية بأن التغيير الذي نشعر به في مناسبات معينة لا يكمن سره في الأيام ولا التوقيت وإنما الأمر كله بداخلنا إذ أن كل شئ هو نفسه ولكن جهاز الإستقبال فينا هو المختلف في هذه الأيام .. 

أذكر جيداً شعور العيد قبل عامين وعند بداية الحرب في بلادي، إذ لم يبق للعيد إلا إسمه ولا أحب أن اخوض الآن وأنا مبتهجة في تلك الايام القاتمة، وعلى الرغم من عدم تغير الكثير مذ ذاك الحين إلا أن ما بنفسي ونفوس الكثير ممن هم حولي قد تغير كثيراً بطريقة لا يسعك إلا ملاحظتها والسرور بها، لم نزدد ثراءً ولكن إحساسنا بالامتنان لأقل النعم قد تفاقم للغاية، لم نزدد عدداً وربما نقصنا ولكن إحساسنا بمعنى أن تكون عزيزاً بين أهلك قد تجذر عميقاً بداخل كل فرد منّا، لم نعد لأوطاننا ولا زلنا نقاسي الغربة ولكن ميلنا للتأقلم والتعايش قد غلب الوحشة المخيفة التي كبلتنا عن الحياة في ذاك الوقت، ولم تنتهي الحرب ولكن رغبتنا في الحياة قد غلبت سطوة اليأس، ولم يتغير العيد ولكننا تغيرنا إذ بتنا نقدس اليوم الذي يمكننا فيه التعبير عن بهجتنا وشوقنا ومحبتنا والكثير من الامتنان، وبذلك كله أدركتُ تماماً أن قوة التغيير هي جزء لا يتجزأ من كوننا بشراً ومن كوننا نملك عقلاً وروحاً فيهما من المرونة والاتساع ما يمكن أن يقاوم أقسى الظروف .

وما جعلني أستحضر كل ذلك هو السؤال الذي وجهته لي قريبتي ونحن نشرب القهوة بعد إحساسنا بتخمة الطعام، إذ قالت وملامحها يعلوها الحماس : ألم تلحظي شيئاً مُغايراً هذا العيد ؟ وأسالك أنتِ تحديداً لإيقاني أنك قد سبقتني بالملاحظة ! 

وللأمانة لم أسبقها بالملاحظة بدقة شديدة فيما يتعلق بالعيد ولكنني لا شك قد لاحظتُ ذلك في كل شئ في حياتنا اليومية بدءً من شخصي وحتى الجميع. وأحببتُ تلك الملاحظة منها إذ كانت كشرارة البدء لحديث مُتقد بين أفراد الاسرة عن إحساس كل واحد ومدى تغيره ومدى إمتنانه لهذا التغيير الذي حدث بداخل نفسه والذي لولاه لكان قد هلك لا محالة .

ومن أحب التفاصيل المتعلقة بالعيد لدي هو ما يتشاركه الأحباب والأصحاب وكل من في نفسه مودة لغيره من أبيات شعرية ومعايدات ودعاء، إذ أستشف من ذلك وحسب عمق المعايدة أو الدعاء مدى حبّ الشخص الموجه إليه الحديث، والابيات الشعرية من نحو : 

"هنيئًا لكَ العيدُ الذي أنتَ عيدُهُ

وأنكَ من فيضِ البهاءِ تَزيدُهُ.

هذه الكلمات قادرة على إسعادي تماماً إن ما صادفتها في أي مقام، ربما لتعلقي بالادب أجدها كذلك ولا أعلم عن ما يفضله الآخرون ولكنني موقنة بأن للجميع طريقة محببة لمعايدة الآخرين حتى وإن كانت صورة بسيطة تحوي حمامة بيضاء ودعاء من زمن الطيبين ..

لا أكاد أستطيع وصف العيد بهذه الجمل البسيطة والمعدودة ووددت لو أستطيع وصفه بغزارة أكثر ولكن وكعادة كل عيد ينضب حديثي وتعجز قريحتي عن التعبير عن معنى العيد وأحياناً ومن شدة عجزي أعود فقط لاقرأ ما أبدعه الرافعي في وصف العيد، وإليكم اقتباس آخر من أحد نصوصه البديعة عسى أن تكون كافيه لوصف حلاوة العيد ! 


جاء يومُ العيد، يومُ الخروجِ من الزمنِ إلى زمنٍ وحدَه لا يستمرُّ أكثرَ من يوم.زمنٌ قصيرٌ ظريفٌ ضاحِكٌ، تَفرِضهُ الأديانُ على الناس، ليكونَ لهم بين الحينِ والحينِ يومٌ طبيعيٌّ في هذه الحياةِ التي انتقلتْ عن طبيعتِها.يومُ السلام، والبِشر، والضَّحِك، والوفاء، والإخاء، وقَولِ الإنسانِ للإنسان: وأنتُم بخير! يومُ الثِّيابُ الجديدةِ على الكُلِّ إشعارًا لهم بأنّ الوجهَ الإنسانيَّ جديدٌ في هذا اليوم. يومُ الزِّينةِ التي لا يُرادُ منها إلا إظهارُ أثَرِها على النفسِ ليكون الناسُ جميعًا في يومِ حُب. يوم العيد؛ يومُ تقديمِ الحَلوى إلى كُلِّ فَمٍ لتحلوَ الكلماتُ فيه..يومٌ تَعُمُّ فيه الناسَ ألفاظُ الدُّعاءِ والتهنئَةِ مُرتفِعةً بقوةٍ إلهيَّةٍ فوق مُنازَعاتِ الحياة. ذلك اليومُ الذي يَنظرُ فيه الإنسانُ إلى نفسِه نظرةً تلمحُ السعادة، وإلى أهلِه نظرةً تُبصِرُ الإعزاز، وإلى دارِه نظرةً تُدرِكُ الجمال، وإلى الناسِ نظرةً ترى الصداقة. ومن كُلِّ هذه النظراتِ تَستوي له النظرةُ الجميلةُ إلى الحياةِ والعالَم، فتُبهِجُ نفسَه بالعالَم والحياة. وما أسماها نظرةً تَكشفُ للإنسانِ أنّ الكُلَّ جَماله في الكُل.

 [اجتلاء العيد || وحي القلم]







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مواعيد الأسنان المُؤلِمة أو المُلهِمة...

فن المُلاحظة؟

يا المولع ناري..

مـَغزى الـفن.

أينما حللت كُن غزيراً،مُتجذراً وأزهر...