حينَ ظهيرة رتيبة ومُذهلة، كنتُ اتكئ بحبور عند باب المدخلِ الحديدي أراقبُ أشعة الشمس وهي تُداعِب شجرة الجهنمية برقة كرقة نسمة الظهيرة تلك. جاء رفيق أخي وبجانبه دراجة سوداء مرقطة يسمونها بفخر ( كوبرا ) ونادى على أخي الذي كان مستلقياً بتراخم فما إِن سمِعَ صوته ولمح الدراجة حتى قفز من مكانه وأخذ دراجته القديمة تلك وخرج برفقة صديقه يتسابقان ويبتسم أحدهما للاخر بنظرات معناها ( أنا الفائز )، إبتسمت إثر هذا المشهد المُبهج والحماسي ووجدتني أفكر في جملة وجدتها تقفز لعقلي فجأة :
" لقد خلقنا لنراقب، خُلِقتُ أنا لاراقب !!
وقد أشعرتني هذه الجملة براحة كبيرة ، واستني تلك الجملة، واست طفلة الاحد عشر ربيعاً التي كانت تعترض وبشدة على الحكم الذي يمنعها من فعل ما يفعله الصبيان، ولكنها فهمت الآن جيداً أنها خُلقت لتراقب، هذا لا يعني كونه أمر قسري أو حكم ظالم ضد الكيان الانثوي او استحقار واستضعاف له، ليس كذلك البتة. فمن سيراقب إن كان الجميع ممثلين لا تنازل عنهم ؟! من سيراقبُ هذه المشاهد المُذهلة ؟! من سيلحظ البهجة، الفرح، الغضب، الحزن، اليأس، الامل، من سيراقب هذا الكون ببساطة !!
- يُعجبني وبشدة أن أكون مراقبة ولا علاقة لهذا بأي ارتباطات اخرى، فكيف سيصبح بامكاني أن أشاهد هكذا مشهد وأشعر بهكذا حبور لو لم أكن متكئة على بابي هذا، لو كنتُ أنا على تلك الدراجة مثلاً !
عندما كتبتُ هذا النص المُرفق في الأعلى كنتُ أشعر بحبور مشابه لشعوري الحالي وذلك لملاحظتي لنفسي المُراقِبة وقد تسللت بدون وعي بين أطراف موقف ما بل دعنا نستبدل كلمة المراقبة الثقيلة بالملاحظة، إذ اكتشفت أنّ لما وصفته في نصي القديم مصطلح ومصطلح شائع بل ربما يكون نوعاً من الفنون الذي تعددت طرق التعبير عنه بين الفنانين، ألا وهو " فن الملاحظة " .
في تلك الظهيرة لم أكن واعية لذلك للدرجة التي جعلتني أحصر الأمر بسذاجة على فئة معينة حتى وإن ظللت مقتنعة بأنها ذات الحظ الأوفر من هذا السلوك الجميل - دون أي تحيز بالطبع - واعتقد أن السبب يرجع لطبيعتنا البيولوجية وخلفية بعض العوامل بداخلنا كإناث إلا أنني لست بصدد الحديث عن ذلك الآن وربما في وقت لاحق وضمن حزمة أفكار اخرى ..
لم ينشأ ذاك الفن بداخلي بين ليلة وضحاها وليس أمراً أتعمد ممارسته بين حين وآخر ولكنه أمر متجذر بداخلي وخيار أواصل اختياره دائماً للعبور بخفة في هذه الحياة. إذ أحاول دائما أن أسير بين الناس وفي مختلف محافل الحياة جميلها وسيئها بعين المُلاحظ ونية المستفيد. الأمر لا يقتصر على مجرد ملاحظة الأشياء الجميلة فحسب بل ملاحظة كل شئ وأي شئ والخروج من دائرة الفراغ وفخ فرط التفكير إلى المُلاحظة فقط، ملاحظة الناس وأحاديثهم، ملاحظة الطبيعة وتغيراتها، مُلاحظة نفسك وانفعالاتها، مُلاحظة الملامح والحركات والأنّات، أن تُوسّع حواسك لأقصاها، ثم بعد إستقبال وملاحظة كل ما هو حولك لك حريةُ إختيار أحد الامرين: أن تتدخل وألا تتدخل، ليس بطريقة اندفاعية ومُعكّرة لوتيرة الحياة ولكن بطرق أخرى ..
أحد هذه الطرق هي عاطفتنا وتفاعلنا مع الأمور من حولنا، إذ أن للعواطف دور كبير في تحديد العدسة التي نرى بها الأمور ونواجه بها الحياة، والاختلاف يكمُن في ترك زِمام حياتك لعواطفك لتُشكل ردّات فعلك سواء أكانت إيجابية أم سلبية ، أو أن تتحكم أنت فيها ولِنقُل " تُعدّل أو تضبط " بدلاً من تحكم، وذلك بأن تُدرك أن رؤيتك لكل شئ وتفاعلك معه إنما يعكس ما هو كائن بداخلك وما هي العدسة التي تنظر من خلالها. ألم تُلاحظ أن الاشياء تتغير حسب تغير شعورنا في الوقت الذي صادفناه فيها فقد يضحي ما ظننته أمراً لا يمكنك تقبله في وقتٍ ما أمراً عادياً بل مُحبباً حتى في وقت آخر إختلف فيه شعورك عن المرة الأولى والأمر كله في النهاية ليس شيئاً لحظياً أو متواتراً وإنما هو أمر متجذر بداخلنا ويختلف باختلاف طبائعنا..
وهو ما يذكرني برد فعل إحدى الشخصيات - المؤثرة فيّ بطريقة عميقة - إثر تعقيب يذكر مدى جمال تفكيرها وشخصيتها؛ حيث أجابت أن " كلٌ يرى الناس بعين طبعه " وكم ابتهجت وقتها لسماع حديثها عن هذه العبارة وأن ما نراه بالخارج ليس إلا انعكاساً لما هو بداخلنا من طبائع وخلفيات فكرية إذ أن ما تراه أنت جميلاً قد يراه غيرك شيئاً بسيطاً أو غريباً حتى ! ولذلك إن أردت أن تغير ما حولك فقط قم بتغيير الطريقة التي تنظر بها إلى الاشياء، طريقة تفكيرك، طريقة تحليلك، تفضيلاتك، فقط قم بتغيير المنظور وحتى إن لم تلحظ تغييراً بعد ذلك كله تعلم التقبل وحسب، فذاك هو ما يميز فن الملاحظة أنك لن تضطر لإحداث تغيير بالقوة وليس مطلوباً منك تغيير العالم ولكن ما هو مطلوب منك ولمصلحة نفسك أن تلاحظ وتتعايش .
أما الطريقة التي تجعل من فن الملاحظة شيئاً مُحبباً لي شخصياً هو امتصاص كل شئ حولي كمرجع، أو كفكرة وذكرى ربما أعود لها في حين آخر، وربما تكون عوناً لي في موقف قد لا أستطيع التصرف فيه لو لم ألاحظ ذاك الامر سابقاً، وربما ساعدتني ملاحظة الامور كثيراً في اقتباس طرق لتحسين شخصي وتحسين طريقة تعاملي مع الاشياء، وربما جعلت مني ما أنا عليه اليوم، وذلك لكوني شخص ذو قدرة على نسخ ما يعجبه من حوله وتنسيقه وتشكيله بطريقة تناسبني وتناسب ما أنا عليه، وكم هو هائل عدد البصمات المطبوعة فيني والتي تعود لأشخاص وأشياء كثيرة مررتُ بها بطريقة تجعلني أذكر الكثيرين ممن أعرفهم ومن لا أعرفهم مع كل خطوة أقوم بها وكل تغيير يحدث بداخلي سواء كانت المواقف التي جمعتني بهم سارة أم مؤذية وحتى وإن لم تكن موجهة لي حتى..
وليس بالضرورة أن نخرج من ملاحظة ما يجري حولنا بفائدة أو حكمة أو تغيير، ربما نكتسب من ذلك فقط متعة لحظية أو حتى فقط صرف عقولنا عن استهلاكها وتقليصها بفرط التفكير في همومنا، فكم هي عدد المرات التي نجحت فيها الملاحظة من إنتشالي من مسافات الطريق الطويل بعد يوم مرهق وطويل، جو سئ، خلفية مزعجة مليئة بثرثرة الآخرين، ازدحام الطريق، جهاز راديو يبثّ أخبار اقتصادية وسياسية قاهرة، إذ أجد نفسي قد هرعتُ بسرعة لتحديد أمر أرغب بملاحظته في هذه اللحظة ربما يكون سرباً من الطيور يحوم حول نافورة ماء، وربنا يكون صبية صغار وهم عائدون من المدرسة، ربما تكون صورة قديمة ومهترئة لوالد سائق البص الذي أعتليه، قَصة شعر فوضوية، أسطر ضبابية لكتاب يحمله من يجلس بالقرب مني، بريق سطح النهر مع أشعة الشمس، أو ربما حتى تلك الشامة التي ظهرت حديثاً في كف يدي لاجد نفسي
قد سرحت بالتفكير في كيفية حدوث تلك الاشياء وما يكمن وراءها من سيناريوهات وقصص وحتمية وجود هؤلاء الاشخاص حولي في هذه اللحظة لترك أثر لا أعلمه حتى وهكذا حتى أتفاجأ بوصولي لشارع بيتي بسرعة ربما لم تكن لتحدث لو أنني ركزت على تلك الجوانب السيئة والمشوشة، وهكذا أعود للشعور بالامتنان لوجودي في عالم ملئ بالتفاصيل المتداخلة والمتناغمة ولكوني قد خُلقت وفيني تلك الرغبة لملاحظة ومراقبة الاشياء .. أما جزمي السابق بأنه ليس من الضروري أن يشغل الجميع أدواراً مُعينة ليس دقيقاً أبداً ومع التغيير الكبير الذي طرأ بداخلي تغيرت قناعتي أيضاً عن هذا الامر، إذ بتُ أعتقد أنه من الحتمي أن يكون لكل فرد منا دورٌ يؤديه بغض النظر عن حجمه ولكن من الحتمي أيضاً ألا تشغل أدوارنا جُل انتباهنا وبالذات عندما نخرج من محدودية مسارحنا ومساحة تأثيرنا إلى براح الحياة وهامش التأثير، أن نستمتع باللحظات التي نكون فيها في منطقة الظل تحت المصباح وأن نلحظ بهدوء ما يجري تحت ضوء ذات المصباح .
ربما أكون قد أطلت في حديثي هذه الليلة وربما أكون قد تنقلت بين الكثير من النقاط وربما لم أحكم ربطها جميعاً لتخرج من كل ذلك بحكمة واحدة ولكن ربما يكون ذلك مقصوداً أيضاً ضمن إطار ما يعنيه أن تلاحظ الكثير دون تحكم في سير الأمور أو تسلسلها وربما لعجزي فقط عن ترتيب أفكاري ووصف ما يعنيه امتلاكك لحس الملاحظة !
🔝❤️❤️❤️❤️❤️
ردحذف❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️ي رنا مابتتخيلي نصك ده جميل لياتو درجة
ردحذفشكراً يا وعد انتِ الجميلة ❤️.
حذفالله الله!!😭💙💙💙💙💙💙💙💙💙💙💙💙💙
ردحذف❤️❤️❤️.
حذف🌹
ردحذفبعيييييييدة يارنا ♥️♥️♥️♥️♥️♥️🫂
ردحذف