الحِكمة المُقتبسة..

 الساعة السابعة وبضع دقائق مساء يوم الأحد، تفصلنا دقائق قليلة عن مغيب الشمس، وياله من وقت عجيب إذ طالما كانت الساعة السابعة مساءً - خلال أيام الصيف الحارة من كل عام- ساعتي المفضلة في اليوم إذ تتراخى أشعة الشمس بوداعة على الأبنية مودعة بذلك يوم آخر من أيام السنة، وتنخفض درجات الحرارة القاتلة قليلاً لتتحرك إثر ذلك بعض النسمات العليلة التي تُلطف الجو في هذا الوقت تحديداً ويبدأ كل شئ من حولنا بالولوج لمكانه المألوف بدءاً من الشمس نفسها ومن ثَم طيور الدوري، الموظفون المرهقون، وكذلك أفكاري..إذ لا يُحبذ لافكاري الشريدة الإستقرار كنصوص قصيرة إلا في هذا الوقت من المساء وبالتحديد صيفاً رغم مُقتي الشديد للصيف إلا أن أفكاري لم تكن يوماً طَوعَ تفضيلاتي..

أجدني في هذا الوقت مشغولة بخربشة بعض أزهار الهندباء على لوحي الإلكتروني قاصدة بذلك الاسترخاء قليلاً وتدور في عقلي بضع إقتباسات تتناسب مع الرسمة المُقتبسة أيضاً، وفجأة ينسلّ خيط تفكيري إثر هذا التطابق إلى أن أغلب ما أقوم بمشاركته والكتابة عنه أو النقاش حوله مع من حولي غالباً ما يكون مقتبساً بغض النظر عن الجهة المُقتبس منها سواء كانت معروفة أو مجهولة بين جمع البشر، إذ نادراً ما تخطر لَبنة الحديث من لُبْ عقلي المحض. سابقاً كنتُ أجد ذلك مُحبطاً نوعاً ما وكأنني قطعة إسفنجية صغيرة تكبر بامتصاص ما يُتداول حولها، واعتقدت وقتها أن شخصيتي ليست سوى مرآة لعكس آراء الاخرين التي أستحسنها ثم أنقلها للآخرين ونادراً ما كانت الحكمة في الأمور منشأها مني، فكنتُ أحياناً أشعر بالنفاق وأن ما يراه الآخرون فيّ ليس ما أنا عليه حقيقة وإنما هو كقطعة فُسيفِساء تم تجميعها من أشخاص آخرين بعيداً عني...

واستمر ذاك الاعتقاد بداخلي وإشتد في الأوقات التي أنفردُ فيها ونفسي ولا يتواجد مِن حولي مَن يمكنني عكس أفكارهم لأشعر إثر ذلك بالخواء وهشاشة الذات، ولكن في يوم ما لا زلتُ أذكره بوضوح، إذ كان يوماً مهماً في تقدير الجميع إلا أنني وبدون دافع محدد قررت تنكيره وعدم إثارة ضجة حول نفسي فيه، وبالفعل فقد سار اليوم كما هو مقرر تماماً وبالرغم من رغبتي التامة بذلك فقد شعرت بقليل من الاحباط إلا أنه سريعاً ما تلاشى لِتحل محله الدهشة العارمة إثر رد أحد الرفاق على إقتباس قصير قمت بمشاركته والذي يقول : 

" نكتب لنخبر شخصاً آخر في زمان آخر، أنا أيضاّ شعرت بذلك ولكنني نجوت " 

ليرد علي الرفيق قائلاً: 

مع التقدم في العمر تزداد الحكمة.. وقد كان رداً متعلقاً بمناسبة اليوم لا الاقتباس في حد ذاته، لأجدني أقوم بالتعقيب عليه : أجل الحكمة المُقتبسة

ليبدد بذلك الشك المغروس بداخلي عندما أردف مُقتبساً من العلامة أبو موسى- الذي أجهل هويته تماماً- إقتباساً فحواه : 

أن العقل الذي يستحسن الحسن ليس أقل مقداراً من العقل الذي صنع الحسن ..

وكم أذهلتني تلك العبارة وقتها وأرضت عقلي الباحث وبنهم عن الحسن الكامن في عقول الآخرين وبين ثنايا كلماتهم وتقاسيم وجوههم، وحتى هذه اللحظة أجدني مذهولة بشدة عند كل مرة أعاود فيها استذكار الاقتباس لاذكّر نفسي أن لا غنى عن الاثنين عقل يبتكر وآخر يحلل ويُبرز، لا بأس بأن تكون مُقتبِساً في أفكارك أو حتى مُقلداً إذ لم يولد أي منا بعقل مكتمل المعرفة أو نفس سامية عن الآخرين، ولِدنا لنمتص ما حولنا ثم نعيد تشكيل ما يتناسب مع ذائقتنا ونتخلص من الباقي. إذ كم سيكون هدراً إن لم يجد من يَقرُض الشعر من يَقتَرِض القليل منه لوصف ذات الحسن !! 

ومن يومها بتُ ممتنة للفسيفساء المتباينة الموجودة بداخل رأسي والتي يختلف ما تعكسه باختلاف ماهية الضوء المُسلط عليها وصاحب الضوء، والذين لولاهم لكنتُ ربما مجرد قطعة زجاج شفافة لا تأبه بما يمر من خلالها من ضوء ...

الخربشة المذكورة أعلاه والاقتباس المكتوب بجانبها تعبير عن الأثر المذكور خلال التدوينة 



*ملاحظة: بدءً من هذه التدوينة أرغب بانشاء سلسلة نصوص تحت عنوان " كل ماهو مُقتبس" أُرفق فيها كل ما كتبته على هذه الشاكلة... 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مواعيد الأسنان المُؤلِمة أو المُلهِمة...

فن المُلاحظة؟

يا المولع ناري..

مـَغزى الـفن.

أينما حللت كُن غزيراً،مُتجذراً وأزهر...