الجُمعة اخـيـراً!

 

استيقظت منذ الساعة السابعة في محاولة مني لتقليل عدد ساعات نومي للحد الذي يجعل من عملية النوم والاستيقاظ أمراً طبيعياً كعادة البشرية منذ قديم العصور، وما وجدته مستغرباً هذا الصباح أنه وعلى عكس صباح كل يوم لم أكن نعسة رغم كونها عطلة ولم أشعر بالفتور الذي يحد بيني وبين إنجاز أعمالي صباحاً ولم أشعر بالضيق لكون جميع من في المنزل نائمون عداي، لأصل إلى استنتاج أنه وربما لأنه تَصادف أن يكون صباح الجمعة دوناً عن سائر أيام الأسبوع ..
الجمعة بالنسبة لي تعني الصباح والصباح الباكر إذ كنا نستيقظ صباحاً على آيات سورة الكهف وهي تملأ الاثير في كل مكان وصداها يتردد من كل بيت، فنهبّ من أسرّتنا سريعاً لنتحلّق جميعاً حول والدتي وهي تصبُ الشاي لكلٍ منا حسب ما يبتغيه هواه - حتى درجة سخونة الشاي تحفظها عن ظهر قلب - لنجلس بهدوء لا يقطعه إلا صوت إحتساء الشاي وتسبيحات جدتي التي تُشبه الصلوات. ثم يمر بقية اليوم بشعور مغاير لبقية الايام، شعور نهاية كدح وسعي وشقاء اسبوع كامل ومشارف اسبوع حافل آخر وبين هذا وذاك يخبط عقلك بصورة مبهجة ذاك الإدراك المتأخر بـ أخيراً انها الجمعة، فلا عمل اليوم ولا حصص صباحية ولا طوابير الحياة الممتدة، لا تفكير ولا تدبير إذ أن أقصى ما في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة وصلة الأرحام. وإن ما ذكرنا الجمعة لن يتسنى لنا تجاوز موعد الصلاة وما قبلها وما يليها، فكما أن الجمعة بالنسبة لي صباحها فهي أيضاً تتمثل بصورة جلية في خطبة المساجد قبل الصلاة بذاك الصوت العتيق لاقدم إمام في الحي وتلك العظات المُعينة للمرء على قضاء اسبوعه وأحببتُ لو أن لي قريباً إماماً فاقترح عليه إدخال بعض النصائح الاسبوعية التي تعين المرء على الدنيا وهمومها وأن تكون خطبة الجمعة هي شرارة السعي التي لا تنطفأ إلا ليلة الجمعة القادمة بدلاً من أن تكون الخطبة مقتصرة على عظات بعيدة المدى فقط فنحن بأشد الحوجة إلى زاد يومنا قبل غدنا وفي كل الاحوال تأتي خطبة الجمعة كوقود لا تعمل أجسامنا بدونه إذ لا أكاد أتخيل زماناً يأتي علينا دون أن تتردد فيه أصداء خطبة الجمعة وإن لم ننتبه لمعظم ما فيها ولكن مجرد الوجود كافٍ بترقيق القلب الخاشع فينا.
ومن ثم أجدني أحب التفصيل في ما يلي صلاة الجمعة بما أننا تطرقنا لما قبلها إذ أن أقرب شئ في ذاكرتي وهويتي عن يوم الجمعة هو تلك " الجلاليب " البيضاء الناصعة وكأنها الشمس قد توزعت بين الاحياء والأزقة يجول بها الجميع من مختلف الاعمار وبمختلف التصميمات ولكن بياضها هو ما يجمعها ويربط بينها وبين كونها رمزاً للجمعة، لا علم لي إن كان أمراً شاملاً للشعوب كلها أم هو أمر تختص به بلادي من بين بلاد قِلة ولكن ما لا شك فيه هو أن بلادي في يوم الجمعة تبدو كحقل قطن أبيض لا يسعك إلا أن تتأمله حتى المغيب ليُقطف ويصبح أجرداً بلا روح وكأنما الروح كلها في بياض هذا الثوب وشدة بياض الجمعة .
ثم إن للجمعة ميزة أخرى على باقِ أيام الاسبوع، إذ تختص بكونها يوماً لإعادة ترتيب كل ما هو مُبعثر والتخلص من كل ماهو فاسد بدءًا من أبسط التفاصيل بداخل بيوتنا وحتى أدق التفاصيل بداخل أنفسنا، وبشتى وسائل التنقية بدءًا من استخدام المنظفات والمكانس مروراً بترتيل البقرة والكهف وختاماً بتحلقنا حول أهلنا والدردشة المطولة عن كل ما يعتريك وما ستتلقاه من نصائح وتعاطف وضحك وبهجة كافية لضخ الدوبامين في أوردتك لمدة أسبوع كامل يستهلك كل ما فيك حتى آخر رمق قبل أن تغفو مساء يوم الخميس مدركاً ببهجة أن وأخيراً غداً جُمعة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مواعيد الأسنان المُؤلِمة أو المُلهِمة...

فن المُلاحظة؟

يا المولع ناري..

مـَغزى الـفن.

أينما حللت كُن غزيراً،مُتجذراً وأزهر...