إطلاق النظر..

 

في كل مرة يعتريني فيها الضيق وُيطبق يديه المشوهتين على أنفاسي أجدني أهرع بشدة إلى أقرب منفذ نحو الهواء الطلق والفراغ الذي لا يحده من السماء شئ سوى إطلاق النظر، وأقوم بإحدى أمرين أو ربما أجرب كليهما لشدة تعلقي بهما وشدة نجاحهما في كل مرة من انتشالي من ضيق الهم إلى رحابة اليقين ..

فالامر الأول والأقرب إلى قلبي هو النظر إلى السماء في أي وقت وعلى أي حال كانت صافية أو ملبدة، مشرقة أم مظلمة، فرؤية السماء دائماً ما تورثُ في قلبي طمأنينةَ أنني جرمٌ صغير في كونٍ كبير وكل ما فيه تحت رحمة خالق واحد وما أوسع رحمته وما أصغر همومنا! 
ثم إن للسماء ارتباطاً في ذهني بخدعة عقلية صغيرة علمني لها أحد زملاء الجامعة أثناء حديثه عن كيفية التخلص من القلق ولست أعلم إن كانت تلك القصة قد ترسخت في أذهان كل من كانوا معي أم أن حبي الشديد للسماء وللطيور هو ما جعلها راسخة وحاضرة في ذهني وبقوة، والخدعة هي أن تتخيل كونك طائر صغير، يفرد جناحيه بخفة ليحمله الهواء إلى اقصى درجات الجو وأعلى طبقات السماء ثم تخيل أن تجول بنظرك وانت ذاك الطائر الصغير إلى ما يقبع تحتك ليبدأ كل ما كان كبيراً ومتضاخماً بالتضائل شيئاً فشيئاً للدرجة التي تُعجزك عن تمييز أي شئ بوضوح، ومن بين كل تلك الاشياء الضئيلة أين اختفت همومك ؟
ومن علو السماء أعود بذهني إلى الأرض مجدداً إذ اعتدت عند شعوري بالضيق أن أُطلق نظري في أكثر الاماكن اكتظاظاً على عكس ما قد يتخيله البعض من الاختلاء بالنفس في هذه الاوقات، إذ طالما وجدتُ مواساة عجيبة في ذاك المشهد المكتظ بالناس الاطفال وهم يلعبون والشباب وقد إنشغل كل بهمه والطاعنين في السن وقد استظلوا بظل شجرة يتبادلون فيها قصصاً عن أعمارهم التي مضت، وجل ما يستنبطه عقلي من ذاك المشهد هو أن نصيبي من القلق ليس الأكبر على أي حال وأن همي ليس الأوحد وأن ذاتي نفسها ليست وحيدة، أننا نتشارك السعي نفسه ونخوض الحياة نفسها ونستقي ذات التجارب ونشعر بذات الاحباط أحياناً وبذات البهجة أحياناً اخرى وأنني وإن كنت قلقة الآن فقد كنتُ ذات يوم بلا هم كهؤلاء الفتية وسأضحي بعد دقائق كذاك الشخص العائد مما كان يخيفه وهو مجبور ومطمئن، وبعد مرور العديد من الأعوام سأغدو كتلك الجدة التي لا تحمل هماً سوى الموعد القادم لجمعية الحي، وفي ذات الوقت أجدني وقد أحسستُ بالامتنان لكوني في الجهة الآمنة من الهموم والمشاكل التي لا علاج لها ولا نهاية لمُقاساتها. وبذلك كله أجد أن الملاحظة والتأمل وإطلاق النظر ليس أمراً عادياً نستطيع الاستغناء عنه لمجرد عدم وجود وقت كافٍ إذ لم يكن الوقت يوماً كافياً على أي حال، ولكن تلك الامور مما يُزيل الهم ويشرح الصدر ويجدد الفكر وبذلك يصفو الوقت على الأقل وإن لم يتباطأ ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مواعيد الأسنان المُؤلِمة أو المُلهِمة...

فن المُلاحظة؟

يا المولع ناري..

مـَغزى الـفن.

أينما حللت كُن غزيراً،مُتجذراً وأزهر...