من وحي الطريق..
![]() |
لو كنت أعلم وقتها أنه وذات يوم سيتقلص ذاك الطريق الطويل الذي اشتكيت منه لما اشتكيت! |
١| الصبي الذي أذاقني حلاوة الشقاء..
- تضمُّ الحافلات ومواقفها الكثير والكثير من الامور المُدهشة التي تجعل الابتسامة لا تُفارق شفتيك طوال الطريق، وواحدة من أجمل هذه المواقف وهو ما أذكره جيداً بأدق تفاصيله من القميص المُهترئ الذي كساه الغبار وحتى هبوط مُرتَدِيه في محطته المنشودة بشدّة. كان طفلاً صغيراً، خفيفاً ذو ابتسامة ماكرة وطفولية في الوقت ذاته، كان الفقر جلياً عليه، ولكنه لم يُعِر ذلك اهتماماً أبداً حيث فاجأني كيف انه أوقف الحافلة ثم بكل عفوية ذاك العمر سأل "الكمساري " قائلاً : " يا عمك ما عندي قروش ممكن أركب ؟! " فوافق على مضض تحت نظرات الجميع ودعاه للركوب، وما إن سمح له حتى جلب معه خمسة أطفال آخرين ليصعدوا الحافلة وابتهاجهم لا يكاد يتسع داخل أعينهم الصغيرة تلك وكأنما ظفروا بقطعة خبز شهية بعد جوعٍ طويل وهو ما جعلني أسرح بأفكاري التي أخذتني لموقف سابق أصررت فيه قائلة " أن الشقاء والعناء الشديدين إنما خُلقا ليجعلا لهذه الحياة طعماً حُلواً ونحن الجائعون على الدوام نأبى أحياناً أن ننال حظنا من الشقاء فنرضى بما لا طعم له الرمادي من الامور لنسد فجواتنا وحسب " فابتسمت بحبور إثر موقف هذا الصغير وهو المُصر على الوقوف بجانب الباب بصمود بالرغم من توفر المقاعد حوله إلا أنه اكتفى بالوقوف نصيباً ورضا، ثم بعدها هبطت إلى محطتي وأنا مسرورة بهذه اللحظة التي سأحفرها بعمق في ذاكرتي بالتوازي مع ما يختلج داخلي أحياناً من يأس وقنوط وقلة صبر وجشع .
٢| ذات صباح..
اعتلينا الطريق منذ السادسة صباحاً بعد لحيظات من شروق الشمس، كلُ إلى وجهته ولكننا على ذات الطريق . الهدوء يطبق بكفيه على أفواه الجميع من خارج وداخل الحافلة، ولكن المذياع الحقيبي القديم أفلت من قيد الصمت وأصبح يبثُ ألحان الكمان السوداني الأصيل باعثاً أغانِي الحقيبة هنا وهناك ونحن نسير بين ربوع الوطن الحبيب .
الجميع يخرجون وهم محبُّون للحياة -للسودانية اقصد- برغم صعابها ومشاقها ومآسيها إلا انهم لم يعتلو هذا الطريق يوماً إلا وهم يرسمون تلك الابتسامة العريضة ويحملون في داخلهم جميعاً
...
أن هذه الارض لنا
دون إعتراض منا
عن نقصنا ومآلنا
والحلم البعيد
يمتطي شمس الصباح
والصباح رباح
شمسك يا وطني.
٣| لا يبثُ العود لحناً بل يبثُ حنين العودة..
ليلة الأمس ..
لم تكن عادية البتة، كانت مواسية للغاية وبطريقة غريبة حد العجب! أن أكون في أشد حالاتي بؤساً وحنيناً للوطن وأنا في أحضان أرصفة مدينة ليست بمدينتي، وإذ بذات الأرصفة تقودني لعازف العود ابن بلادي، ورفيق أبي الأعز، ومن بين كل الاغنيات يسألني عن أيها أفضل لتكون إختياري القديم الذي توّلد في الماضي بريئاً من الحرب والغربة، لتُعزف وتُغنى الآن وكل ما فيها يذكرني بالوطن، حين غنى بشجن ..
كان في ناس ساكنين هنا
في ناصية جنب المنحنى
عاشو في أمن وأمان
- لينتقل بعدها حزيناً لأغنية اخرى اعتدت دندنة بيتها الأول دون أي تتمة :
أنا والليل والغربة أصحاب
ما بين صِلات الهم والدم
والأحباب الباب في الباب ..
- ثم لم نشعر بعدها بالليل وهو يسيرُ مُثقلاً نحو أكفان الصباح ، لننصرف ونحن مثقلون بالحنين للوطن وألحانه. لتكون الصدفة الثانية التي أثلجت صدورنا، كيف لا وذاك الرجل المصري ذو الظهر المحني، والبحة العميقة، قد إسترق من حنيننا سودنتنا، لِيُدير مذياعه في وقار فنتفاجئ بصوت محمود عبد العزيز الحزين وهو يغني لزينوبة على ألحان الطبول السودانية، ثم وردي ومن بين كل أغانيه كانت صُدفة ولم أستطع حينها أن أكون أكثر دهشة وأنا التي تُبهجني الصُدف الصغيرة فمالِ هذه الليلة مليئة بهكذا صدف. ثم صلاح بن البادية، الكابلي، البلابل، شرحبيل، خواطر فيل، المذياع يُغني والرجل يسرد من تاريخ السودان أطوله وأجمله وهو القائل وكم أحببت منه هذه الإشادة، حين ذكر سعيداً بأن حبه للأغاني السودانية -ذات المعنى- ليس مبالغاً فيه ؛ كيف لا والسودان بلد المليون شاعر !!
ومن وقتها وأنا حبيسة الدهشة والبهجة وباتت لي القاهرة ليلتها واسعة، رحبة، بعد أن كانت قاهرة بحق، مُطبقة بشدة على أنفاسي وعبراتي، فكيف لأمر مرتبطٌ بوطني العزيز ألا يجعلها رحبة، ليتنا نسمع المذياع يُغني تارة أخرى قائلاً ..
يا وطني يا بلد أحبابي
في وجودي أحبك وغيابي
ولكنّه حتماً لن يكون إلا مذياعاً في الوجود ..
تعليقات
إرسال تعليق